الصفحة الرئيسية  اقتصاد

اقتصاد حوار خاص: عزالدين سعيدان يتحدّث عن أسباب ارتفاع الأسعار وما ينتظر التونسيين حول المحروقات، ويُنذر بإمكانية تسجيل عجز تجاري "تاريخي"

نشر في  14 سبتمبر 2022  (09:53)

في حوار خاص جمعه مع موقع أخبار الجمهورية تحدّث الخبير في الشأن الإقتصادي والمالي عزالدين سعيدان عن المشاكل الإقتصادية المتفاقمة التي تعيش على وقعها تونس وما بات المواطن التونسي يعاني منه على خلفية ظاهرة ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة التي شرح سعيدان أهمّ أسبابها وتداعياتها...

كما تطرّق الخبير الاقتصادي في هذا الحوار عن ارتفاع سعر المحروقات وهل انه سيصل فعلا إلى مبلغ 4200 للتر الواحد في الأشهر القادمة، فضلا عن إصلاحات صندوق النقد الدولي وعن "دوّامة" تعسّر تونس عن سداد الدين الخارجي وإمكانية تسجيلها لعجز في الميزان التجاري في حدود 25 مليار دينار والذي وصفه بأنه سيكون مستوى غير مسبوق في تاريخ البلاد...

وعن الإقتصاد الموازي الذي بلغ نسبة 50 بالمائة من الإقتصاد ككل، وعن خطة إنقاذ الإقتصاد الوطني وللقطاعات الإستراتيجية وعن جملة من المسائل الأخرى تحدّث وحلّل عز الدين سعيدان في هذا الحوار الذي تتابعون تفاصيله في ما يلي...

 - في البداية ماهو تحليلك لظاهرة ارتفاع الأسعار وفقدان بعض المواد الأساسية من الأسواق؟

لا ريب أنّ ظاهرة ارتفاع الأسعار تأتي نتيجة ارتفاع نسبة التضخّم المالي بتونس الذي من بين أسبابه أوّلا ، عدم وجود التوازن بين نسب الإقتصاد الحقيقي (اقتصاد الإنتاج والإستهلاك...) وما بين الكتلة النقدية الموجودة في البلاد خاصة ونحن نعلم بأنّ الدولة قد التجأت إلى تمويل جزء من عجز  الميزانية عن طريق البنك المركزي  وهو ما يعني ضخ سيولة دون أن يكون هنالك مقابل لنشاط اقتصادي وهو ما يتسبّب طبعا في هذا التضخم المالي...

السبب الثاني للتضخّم المالي هو ما يسمّى بالتضخّم المالي المستورد الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد المستوردة مثل النفط، وكما تعلمون فإن سعر برميل النفط يؤثر على الحركة الاقتصادية كلها... هذا فضلا عن ارتفاع أسعار الحبوب وأسعار العديد من المواد الأولية وأيضا أسعار  التأمين والنقل إلخ، كل ذلك يسمى بالتضخّم المستورد الذي يرتبط بغلاء المواد التي تستوردها البلاد التونسية وهو ما يؤدي الى تضخم مالي مرتفع جدا يقدّر معدّله بـ8.6 بالمائة.

وأمّا بالنسبة للمواد الغذائية مثلا، وعلى اعتبار أنّ التضخّم الحالي الذي بلغت نسبته تقريبا 12 بالمائة فإنّ الأمر سيؤدي حتما إلى نتائج وانعكاسات وخيمة خاصة على القدرة الشرائية للمواطن وكذلك على قيمة العملة في الداخل وفي الخارج وعلى كل التوازنات الاقتصادية والمالية للبلاد وكل ذلك يأتي في ظل صعوبات اقتصادية ومالية كبيرة وخاصة المشاكل التي تعاني منها المالية العمومية...

- وماذا عن فقدان بعض المواد الأساسية؟

الجدير بالملاحظة في هذه المسألة  هو أنّ خاصية كل المواد المفقودة بالأسواق تقريبا هي من اختصاص الدولة، أي أن الدولة هي المسؤولة مباشرة على توريد هذه المواد... وهنا وجبت العودة إلى دراسة وتحليل ما تعيشه المؤسسات العمومية من أوضاع سيئة خاصة من الناحية المالية، ولعلّ من أهم المتسببين في هذه الأوضاع هي الدولة التي قامت في فترات معينة صلب هذه المؤسسات العمومية بعدد كبير للغاية من الانتدابات الذي فاق طاقة استيعابها وهو ما أدّى إلى انخرام التوازنات المالية...

 إلى جانب ذلك فإنّ الدولة لم تسدّد في عدد من المناسبات مستحقات المؤسسات العمومية خاصة تلك المتأتية من صندوق التعويض، وهو ما زاد في صعوبة وضع المؤسسات العمومية التي لم تفقد فحسب ثقة المزود الاجنبي على اعتبار الفواتير غير المدفوعة بل وفقدت أيضا ثقة المؤسسات المالية في الداخل وفي الخارج وبالتالي أصبحت مُجبرة إمّا على الدقع مسبقا أو بالحاضر "كاش" في صورة رغبتها في توريد أيّ مادة..

- حسب تقديرك، ما مدى رجاحة التوقعات التي تنبّأت بوصول سعر المحروقات بتونس  إلى 4200 مليم للتر الواحد في غضون شهر ديسمبر في حال بقي الوضع في السوق العالمية على ماهو عليه اليوم (أكثر من 90 دولارا للبرميل)؟

 في الحقيقة هنالك بوادر إنفراج في السوق العالمية في ما يتعلق بسعر البرميل الذي كان قد تجاوز سعره عتبة 130 دولار لكنه الآن يشهد تراجعا الى حدود 90 دولار، في المقابل نحن لا ننسى أن ميزانية الدولة التونسية قد بنيت على أساس أن سعر برميل النفط سيكون في حدود 75 دولار فقط... ولا ننسى أيضا أن هنالك آلية لتعديل أسعار المحروقات في تونس وهي آلية شهرية لم يتم تفعيلها منذ شهر أفريل لهذه السنة، وهذا ربما يرجع إلى أسباب سياسية بالأساس أكثر منها إقتصادية وهو ما لعلّه قد يجبر السلطات على تعديل كبير جدا في أسعار المحروقات..

لكن لا أظن أنّ جملة التعديلات ستصل بنا إلى سقف المبلغ المذكور، حيث أنّه ليس للمواطن أي قدرة على تحمّل هذا المستوى من السعر في أشهر قليلة، لكن في صورة تواصل التعديل بشكل متواتر فإنّ إمكانية الوصول إلى الثمن المطروح ممكنة طبعا خاصة على اعتبار انّ ميزانية الدولة قد بنيت على فرضية تجاوزتها الأحداث بكثير.

- في كلمات، كيف تقيّم الوضع الاقتصادي الحالي في تونس؟

وضع صعب للغاية، لأنه عندما نتحدث عن التضخّم المالي في تونس هنالك من يقول أنّ التضخم هو مشكل عالمي تعاني منه العديد من البلدان وهذا في جانب منه صواب، لكن هنالك فرق كبير جدا بين تونس وهذه البلدان التي رغم أنها بالفعل تعاني من تضخم مالي لكنها في المقابل تشهد نموا اقتصاديا وحركية اقتصادية هامة، فضلا عن تسجيلها لنسب بطالة متدنية جدا وأيضا نسب فائدة متدنية وهو ما يحيلنا للقول بأنّ الفرق بين هذه الدول وتونس هي أن بلادنا تعيش وضعا معقّدا على المستويين الاقتصادي والمالي (تضخم مالي وركود اقتصادي) في نفس الوقت يصعب معه التعامل بشكل كبير.

كما تعيش تونس أيضا في ظلّ ما يسمى بالعجز الكبير على مستوى ميزانية الدولة وكذلك عجز كبير في ميزان الدفوعات الجارية، وعلينا أن لا ننسى بأن الأرقام التي أصدرها مؤخرا المعهد الوطني للإحصاء تعطينا لمحة فقط عن عجز الميزان التجاري والذي بلغ  17.9 مليار دينار  وهو ما يعني أنه في صورة المواصلة في هذا النسق ربما سنصل الى تسجيل عجز في الميزان التجاري في حدود 25 مليار دينار والذي سيكون مستوى غير مسبوق في تاريخ تونس.

كما سيتسبّب في تداعيات وخيمة على اهتراء الاحتياطي من النقد الأجنبي خاصة وأنّ عجز الميزان التجاري لا  يسدد  إلّا بالعملة الاجنبية بالكامل، مع العلم وأنّ تونس لم تتوصل إلى حد اللحظة إلى تسوية جديّة مع صندوق النقد الدولي وهو ما سيطرح السؤال من أين ستأتي تونس بمثل هذا الكم الهائل من الأموال بالعملة الأجنبية؟

- على ذكر صندوق النقد الدولي، كيف يمكن ترجمة التـخوفات الكبيرة من دخول تونس تحت مظلته خاصة وسط رفض الاتحاد العام التونسي للشغل للنقاط المتعلقة برفع الدعم والضغط على كتلة الأجور بالقطاع العام وتأكيده بأنّ ذلك من شأنه أن يتسبب في سقوط ما يزيد عن 450 ألف شخص في دائرة الفقر؟

بات من المؤكد القول بأن تونس قد وصلت الآن إلى معادلة صعبة للغاية... كما انّ مسألة الدخول في الإصلاحات التي تأخرت كثيرا سيكون له تكلفة اجتماعية باهضة، لكن عند التساؤل هل بالإمكان مزيد تأخير هذه الإصلاحات؟ فإنّ الجواب سيكون طبعا لا..

وبالعودة إلى الحديث عن صندوق النقد الدولي، فإن مسألة الموافقة أو عدم الموافقة لابد أن يتمّ تقييمها من زاويتين.. زاوية أولى تتبلور حول التساؤل هل أنّ الوضع الداخلي يسمح فعلا بالقيام بالإصلاحات الضرورية أم لا؟ وهذا طبعا يحمل جانبين أحدهما سياسي والآخر اجتماعي وهنا يدخل الاتحاد العام التونسي للشغل على الخطّ حيث انه في صورة رفضه للاصلاحات فحتما ستكون المعادلة صعبة للغاية وربما ستجعل صندوق النقد الدولي يتردد كثيرا قبل الموافقة..

أمّا المنحى الثاني وهو مهم جدا كذلك، فهو يتمثّل في مسألة تقييم صندوق النقد الدولي لحظوظ نجاح أي برنامج إصلاحي إقتصادي مع أي دولة معينة من خلال لجوئه إلى أهم شركاء تلك الدولة ومحاولته تقييم مدى استعدادهم للإنخراط في تلك البرامج الاصلاحية.

مثلا بالنسبة إلى تونس، فإنه في صورة ما إذا لم يكن الإتحاد الأوروبي الذي يعتبر أكبر شريك اقتصادي لها وكذلك إذا لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أخرى أيضا لتونس معاملات معها سواءً كانت اقتصادية أو مالية، إذا لم تكن لديها استعداد في المساهمة في برنامج كامل متكامل لإنقاذ الوضع الاقتصادي والمالي في تونس فان ذلك سيدفع صندوق النقد الدولي إلى التردّد مرة أخرى والتساؤل عن الفائدة من الموافقة على برنامج ستكون فرص نجاحه ضئيلة جدا.

وهذا الوضع الذي نمر به ستدخل فيه على الخطّ حتى السياسة الخارجية التي هي مهمة جدا في توصّل تونس الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي من عدمه..

- اتخذت ظاهرة الاقتصاد الموازي في تونس منحى خطيرا خاصة أن بعض التقديرات تشير إلى أنه بلغ نسبة 50% أو أكثر من حجم الاقتصاد، فحسب رأيكم ما أسباب تنامي هذه الظاهرة؟

هي أسباب عديدة خاصة وأن هذه الظاهرة موجودة تقريبا في جلّ دول العالم وهنا الموضوع الأهمّ هو مقدار النسبة التي سجّلها هذا الاقتصاد الموازي في الاقتصاد ككل ... فأن يكون في حدود 10 إلى 12 أو حتى 15 بالمائة فإن الأمر لن يطرح الكثير من نقاط الإستفهام حيث أنّ تونس تعوّدت على تواجد هذه الظاهرة في حدود 15 بالمائة لكن أن يتفاقم هذا النوع من الاقتصاد على حساب الاقتصاد المنظم ويصل الى هذه النسبة المتحدّث عنها فهذا يعتبر أمرا يدعو الى القلق!

ولا مراء في أنّ الإقتصاد الموازي ينتعش كلما ضعفت السلطة في أي دولة من دول العالم، وأيضا هنالك سبب ثاني وهو الوضع الصعب الذي تشهده الإدارة التونسية وما تسبّبت به البيوقراطية الإدارية من طول وتعقيدات ومشقّة  الإجراءات الإدارية هو ما دفع بالعديد من المؤسسات خاصة الصغرى والمتوسطة إلى الإلتجاء نحو الإقتصاد الموازي واعتباره أرحم من الإقتصاد المنظّم.

وإذا ما وصلنا إلى هذا المستوى من الإقتصاد الموازي ولم تكن لدينا استراتيجية كاملة وشاملة للتعامل مع هذا الوضع من بينها إعادة إدماج أكبر جزء ممكن منه في الاقتصاد المنظم، فإنّ المسألة ستصبح معقّدة بشكل كبير.

- نشرت فيتش في شهر ماي الماضي تقريرا تضمّن قائمة بالدول المهددة بالإفلاس أو المعرّضة للتخلف عن سداد ديونها، من بينها تونس، فهل فعلا أصبح من الجدي القول بأن مسافة قريبة أضحت تفصلنا عن خط الافلاس؟

لن أتحدّث عن الإفلاس بل سأتحدّث عن مسألة تعسّر تونس في تسديد الدين الخارجي، وفعلا إذا لم تتوصل في أجل قريب جدا الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي فستكون تعبئة أي أموال صعبة وغير ممكنة. كما سيتآكل مخزون البلاد من العملة الأجنبية بسرعة وإذا ما حصل ذلك فهذا يعني بأن تونس لن تكون قادرة على مواصلة تسديد ديونها بصفة طبيعية وهو ما يعني التعسّر الذي سيؤدي حتما الى دوامة خطيرة جدا وهي دوامة إعادة جدولة الدين في تونس.. ونحن نتمنى أن تجنّب تونس نفسها من الوقوع في مثل هذه الدوامة.

- إذن كيف السبيل إلى إرساء برنامج انقاذ وطني حقيقي للاقتصاد التونسي وهل من خطة لإنعاش القطاعات الاستراتيجية؟

الخطة موجودة ومعروفة وتتبلور خاصة في صورة وجود إرادة سياسية فعلية والقيام بحوار وطني يؤدي إلى تشخيص جدّي وتوافقي للأزمة، ويمكن وقتها فقط أن نمر إلى خطة إنعاش من الممكن الآن تطبيقها وستتطلّب منا 5 سنوات تقريبا للقيام بها ولبسطها على 3 مراحل. وربما تؤدي الى إنقاذ الإقتصاد الوطني، اذا توّفرت فعلا الإرادة حتى نستطيع المرور من عتبة كلّ التحديات الاقتصادية الموجودة في تونس.

- ما هو موقفكم من  بعث الشركات الأهلية وهل انها ستمثل فعلا "محطة أولى في بناء الهوية التنموية المستقبلية لتونس" وفق ما يُقال؟

ليس لديّ أيّ جواب على هذا السؤال...

 -هل من كلمة أخيرة..

 كلمتي الأخيرة هي الدعوة بأن يحفظ الله تونس... تونس التي هي قادرة على الخروج من هذا الوضع الصعب إذا ما توفرت الإرادة السياسية لذلك..

 حاورته: منارة تليجاني